شعر ثورة اليمن الخالدة 26 سبتمبر موضوع خصب، حظي بمكانة كبيرة، وكان له دور بارز في الثورة، إلا أنه لم تصدر حتى الآن دراسات متخصصة توضح طبيعة تلك الآدوار ومراحل تطور شعر الثورة وخصائصه، وفي هذا التقرير يمكن أن نشير إلى بعض تلك الأدوار.
الشعر في ثورة سبتمبر
أسرج الشعر خيل الثورة ضد حكم الأئمة منذ البدايات الأولى لتململ الجماهير وشعورهم بالغبن وفقد الحيلة في كشف الظلم ودفع الاستبداد، وتجلت أولى ملامح الثورة اليمنية في طليعة من الشعراء الذين كانوا أكثر قدرة على ترجمة الواقع واكتراثا بمعاناة الشعب وصدقا في اعتناق همومه وقضاياه
فقد شكلت حركة الشعر في معارضة حكم الأئمة الإرهاصات الأولى للثورة، وصارت بعد ذلك مصدر إلهام للجماهير وبوصلة نضال حاكمة لعملية الصراع والتمرد التي قادت أخيراً لثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
ومن أهم الأسباب التي جعلت الشعر يحظى بهذه المكانة ويكون له هذا الدور البارز في الثورة هو أن قادة الثورة ورموزها هم رأس تلك الطليعة من الشعراء، فقد كانوا رجال دولة وسياسة وفرسان نضال وميدان ونخبة فكر وثقافة وكانوا شعراء أيضا ويأتي في مقدمتهم أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري والرئيس الفيلسوف والفقيه العالم القاضي عبدالرحمن الارياني والقائد علي بن ناصر القردعي وقائمة طويلة فيها (زيد الموشكي، ومحمد عبده غانم، ، إبراهيم الحضراني، عبده عثمان، علي عبد العزيز نصر، مطهر بن علي الإرياني، وصالح سحلول، عبدالعزيز المقالح والشاعر الكبير عبدالله البردوني وآخرين).
الشعر مجس لاكتشاف الحاكم
استطاعت هذه النخبة الثورية أن تكتشف مآلات العلاقة بين الحاكم الطاغية والشعب من خلال عدد من القصائد التي كانت بمثابة مجس دقيق لاكتشاف أغوار الحاكم وإدراك حقيقة نواياه تجاه مطالب الشعب الملحة والتي كانت تتقدم بها للطاغية يحي أو الطاغية أحمد، وسواء تقدمت بتلك المطالب شخصيات وطنية من داخل جهاز الحكم أو من خارجه.
وفي هذا السياق يقول الزبيري وهو يتحدث عن قصائده المرسلة للطاغية أحمد: "ولقد كان شعر المدح في هذه الفترة البدائية هو الرائد والمستكشف الأول وهو المجس العميق الدقيق الذي تغلغل إلى أغوار نفس الإمام وأعطانا المقاييس والمعايير لتقدير الحد البعيد الذي ذهب إليه الطاغية من التأله والقسوة".
قناة تواصل مع الجماهير
من جهة ثانية، كان الشعر هو الوسيلة المتاحة- أكثر من أي وسيلة أخرى- لتعميق وعي الجمهور بقضاياه وتحديد أولوياته ونقل همومه وتجسيد معاناته واستطاع الثوار من خلاله دغدغة عواطف الشعب، وتحريك بواعث القوة الحسية والمعنوية فيه، وتعزيز ثقته بنفسه وبقدرته على الخلاص والانعتاق من الظلم والاستبداد والفقر والتخلف المتمثل بالحكم الامامي.
وهذا ما نجده في أبيات الزبيري وهو يقول :
قم يا يراعُ إلى بلادك نادها
إن كان عندك للشعوب كلام
فلطالما أشعلتَ شعرك حولها
ومن القوافي شعلة وضرام
وفي ظل القمع المفروض من النظام ومصادرة الحريات وحقوق التعبير أو التجمع أو التداول كانت القصيدة هي الأكثر قدرة على النفاذ والوصول إلى الجماهير بالمشافهة أو الرسائل المكتوبة، أو كتابتها في قصاصات وتعليقها سرا في بعض الأحياء كصنعاء القديمة في محطات نادرة مرت بها الثورة.
ميلاد قضية والتبشير بعصر حديث
من خلال ما تمتاز به القصيدة من قدرة على الرمز والكناية وتهييج الخيال استطاع الثوار أن يبذروا أفكار التمرد على الأوضاع القائمة آنذاك داخل قصائد المديح للحاكم نفسها، وفي هذا يقول الشهيد محمد محمود الزبيري "إن القضية ولدت هناك في تعز على صورة قصائد طنانة كنا نلقيها على الجماهير في محافل الاعياد الضخمة لولي العهد، لقد كان عملنا يومئذ يعتبر تقدمية ونهضة، وجرأة على تطوير الأساليب القديمة في الأدب والشعر، وجرأة على الظهور والطموح، والتبشير بوجود عصر حديث لم يكن للناس به علم في بلادنا...".
وهنا يمكن القول إن القصيدة كانت إطاراً نظرياً احتوى قضية اليمن وشعبه، فقد كانت القصيدة لسان حال الشعب ولسان الثوار، وساهمت إلى حد كبير في البعث النفسي والمعنوي لليمنيين من خلال ما استدعته من تأريخهم العريق وأمجادهم التليدة، وروح وقيم ومبادئ الاسلام.
يقول الأديب والباحث السياسي ثابت الأحمدي :"الشعرُ أحد روافد الثورة ومحرك وجدانها، منذ الأربعينيات فالخمسينيات حتى تفجرت قصائده حمما غاضبة لا تقل عن تفجر الجبهات العسكرية، وبين يدينا أشهر الشعراء الجمهوريين عبدالله البردوني في قصيدته الشهيرة ومطلعها:
أفقنا على فجر يوم صبي فيا ضحوات المُنى أطربي
أتدرين يا شمس ماذا جرى؟ سلبنا الدجى فجره المختبي!".
ويضيف الأحمدي في تصريحات لـ"أوام أونلاين"" الشعر لزيم الثورات كل الثورات، ومنها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المعظم؛ لسببين:
الأول يتعلق بالشاعر نفسه، باعتباره مثقفا منحازًا لضمير الأمة وخيارات المجتمع، كغيره من الفئات الاجتماعية الأخرى.
الثاني يتعلق بالشعر نفسه، فطبيعة الكلمة المنظومة شعرا غير الكلمة المكتوبة نثرا. للشعر حلاوته وطراوته، وهو يعمل في القلوب والعقول عمل السحر. وكم ألهب الشعراء بشعرهم من عقول وقلوب..".
سمات شعر الثورة
وفيما يتعلق بسمات شعر ثورة اليمن 26سبتمبر يجيب الأحمدي:" أظنه يبتعد عن شعر ثورات تلك المرحلة كثيرا، كان كلاسيكيا متجددا في أغلبه، وبين يدينا من شعراء مصر في تلك المرحلة صلاح جاهين الذي امتد متدفقا بالشعر حتى بعد النكسة. وفي العراق أيضا يظل اسم الشاعر محمد مهدي الجواهري متصدرا المشهد الثوري".
وقد اتسم شعر هؤلاء بصدق الانتماء للقضية الأم، لسبتمبر الثورة، لسبتمبر الحياة التي ولدت من جديد؛ لأن ثورة سبتمبر 62م لليمنيين قد أوجدتهم من العدم، فكان الشعرُ صادقا فياضا بحجم المعاناة وبحجم الحدث الذي أزاح ظلامات القرون.
ثمة قصائد كثيرة تمثل أيقونات سبتمبرية رائعة لعل أهمها "حكاية سنين" للبردوني وهي أطول قصائده الشعرية وفيها لخص القضية اليمنية كاملة، وفي ختامها رثى الزبيري بأحر مرثية. قصائد كانت تنطق بلغة الشعب، وتخاطب الشعب، لم يتم توظيفها التوظيف الإيجابي الخلاق للأسف الشديد، وهذا هو سر نجاح سبتمبر الثورة/ الفعل، وإخفاق سبتمبر الثقافة.
الشعر والأدب
إن الشعر وإن كان أحد فنون الأدب إلا أنه "كاد يكون كل أدب ما قبل الثورة اليمنية " السبتمبرية" - على حد وصف شاعر اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح- سواء الشعر بذاته أو الشعر كمادة للخطابة والمحاضرة وكمادة للأغنية والانشودة فيما بعد، ولم يقتصر شعر الثورة على نوع أو نمط واحد بل نجد الفصيح والحميني والشعبي والنبطي والنبطي الفصيح ونجد كذلك من فروع الشعر الزامل والاهزوجة .
نذكر هنا زامل للشيخ والشاعر علي ناصر القردعي قاله بعد نجاحه في الإفلات من سجن الطاغية يحيى في صنعاء:
يا ذي الشوامخ ذي بديتي
ماشي على الشارد ملامه
قولوا ليحي بن محمد
با نلتقي يوم القيامة
الشعر والفن
كانت ثورة سبتمبر ثورة خلق وإبداع، وقد تدفق الشعر فياضاً على ألسنة الشعراء بكل أشكاله وألوانه، فتلقفه الفنانون وأنتجوا العديد من الأغاني والأناشيد الخالدة بعد اندلاع الثورة ثم شهدت الاغنية ازدهارا لافتاً بعد انتصار الثورة وراح الفنانون يغنون لكل شيء في الوطن.
يقول الأديب ورئيس مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام، عادل الأحمدي: "كعادة أيّ مشروعٍ فنيٍ عظيم، ثمة ثنائية بالغة التطابق، بين الكلمة والصوت، بين الشاعر والفنان، بين مطهر بن علي الإرياني وعلي بن علي الآنسي، بين عبدالله عبدالوهاب نعمان وأيوب طارش العبسي، بين حسين المحضار وأبوبكر سالم. وعندما يجتمع علَمان على هذا القدر من العلو كالإرياني والآنسي، فإن المحصلة تكون ولا ريب؛ فناً خالداً يربط الإنسان بالأرض والحب والبن، وبين الماضي الحميري العريق مع الواقع الجمهوري المتوثب".
ويضيف في تصريحات لـ"أوام أونلاين" :"حينما كان الهواء السبتمبري يملأ رئة الشاعر والفنان، كان ثمة موجةٌ مدروسة من الفن الموجّه نحو الزارع والعامل والصياد والعاشق والجندي والتلميذ، تربط الوطنية بالإنتاج، والحب بالبن، والصبر بالنصر. ذلك الفن العظيم، هو نتاج الـ٢٦ من سبتمبر والـ١٤ من أكتوبر، وقد كان رديفا لكل معاني الحياة والسعادة والنشاط والجمال".