أوام أونلاين- ساسة بوست
إن مصر القديمة لم تكن فقط هذه الأهرامات الضخمة التي صمدت أمام اختبار الزمن لآلاف السنين، ولا المعابد ذات الأعمدة الحجرية الشاهقة المتناثرة بأنحاء البلاد، وإنما امتلكت مصر القديمة نظمًا وقوانين حاكمة حتى بين الآلهة، فقد تقاضى الإله حورس وعمه الإله ست وفق معتقداتهم في قضية وراثة عرش أبيه أوزير أمام محكمة إلهية، كان كاتب سجلها الإله جحوتي، رب الحكمة والكتابة.
وأمة بهذا التنظيم وتلك الدقة في التسجيل حتى أن عوامل الزمن حفظت لنا برديات إدارية تنظم وتشرح سير العمل بمشروعات ضخمة كبناء هرم خوفو بالجيزة مثلًا، بل وسجلات قضائية ومحاكمات لأفراد من الأسرة الملكية، نقول أمة بهذا الوعي لأهمية السجلات التاريخية؛ قد وقفت صامتة تمامًا وفق ما وصلنا من آثارها، عن ذكر حادثة خروج بني إسرائيل من مصر، أو ما يسمى اصطلاحًا «Exodus» بين باحثي ومتخصصي الدراسات الكتابية – أي التي تعنى بدراسة الكتاب المقدس- بالخروج.
لكن على جانب آخر، يوجد من يرى تطابقًا ما بين قصة رمسيس الثاني وبين مسار قصة فرعون موسى كما ذكرت في الأديان الثلاثة، وهو الرأي الذي شاع حتى بين غير المتخصصين، فهل هو حقيقي؟
رحلتنا المعرفية التالية ستكون طويلة بعض الشيء، وسيكون مهمًا فيها تجنب السقوط في فخ الإجابات الجاهزة لأنها لا تروي ظمأ الفهم، فموضوع الخروج من الموضوعات الشائكة التي سالت فيها أنهار من الحبر وكتبت على أطنان من الورق ما بين مؤيد ومعارض.
من هو رمسيس الثاني؟
لنبدأ بسلسلة الأسماء والألقاب الملكية أولًا: أنه «كا نخت مري رع» أي «الثور القوي محبوب رع»، وهو «مِك كيمت واف خِسوت» أي «حامي مصر وفاتح الأراضي الأجنبية»، وهو «وسر رنبت عا نختاو» أي «طويل العمر والمنتصر الممجد»، وكذلك «وسر ماعت رع ستب ان رع» أي «عدالة رع القوية والمختار من رع»، وأخيرًا اسم الميلاد الذي حُرف منه اسمه الحالي كما نعرفه «رمسيس» وهو «رع مسي مري آمن» أي «وليد رع ومحبوب آمون»، وهو الملك الثالث ضمن السلالة الحاكمة للأسرة التاسعة عشرة، عصر الدولة الحديثة، كما أنه المؤسس لما عُرف بعد ذلك بحقبة الرعامسة؛ أي الملوك الذين تسموا باسم رمسيس تيمنًا به وفخرًا.
تولى رمسيس الثاني العرش خلفًا لأبيه الملك سيتي الأول وهو في سن المراهقة، حوالي 14 عامًا، تقريبًا من العام 1279 إلى 1213 قبل الميلاد – حسبما اتفق معظم علماء المصريات- كما أنه عُرف من قبل الملوك المصريين اللاحقين بـ«الجد العظيم» حيث كانوا يعتبرون أنفسهم خلفًا له في قيادة وحكم البلاد وكذلك في البناء والتشييد.
فقد ثبت عن رمسيس الثاني شغفه بالعمارة والفنون وكثرة معابده وآثاره بطول البلاد وعرضها، بل وحتى خارج حدود مصر، ومنحه ذلك لقب البناء العظيم، وقد يفهم المرء سر الإنجازات العظيمة على مختلف المستويات السياسية والمعمارية والعسكرية التي قام بها رمسيس الثاني، نظرًا لطول مدة حكمه، فقد حكم الرجل ما يقارب السبعين عامًا أو أقل قليلًا وتوفي بعمر التسعين أو بعدها بقليل، وكونه كان معمرًا هي نقطة محورية في رحلتنا، سننطلق منها لمختلف الافتراضات والنظريات الخاصة بعلماء المصريات حول موضوع الخروج برمته. حيث صنفته موسوعة «بريتانيكا» ثاني أطول حاكم في التاريخ المصري القديم.
ما هو الخروج؟
إن الخروج – حسب التقليد التوراتي- هو هروب بني إسرائيل من مصر حاملين معهم متاعهم وذهب وحلي المصريين، هروبًا من نار الذل والعبودية التي ذاقوها على يد المصريين؛ إلى الصحراء بقيادة النبي موسى حتى عبروا البحر – بمعجزة إلهية – شقت لهم البحر نصفين ليعبروا، ومن ثم وصلوا إلى سيناء التي تاهوا فيها أو في البرية على الحدود مع كنعان حوالي 40 سنة ثم وجدوا طريقهم إلى أرض الميعاد، الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا، وهي فلسطين الحالية، ويمكن أن تجد القصة كاملة بسفر مهم من أسفار الكتاب المقدس وهو سفر الخروج.
لقد تمت الاستعانة بالتقليد التوراتي باعتباره مصدرًا وحيدًا لحادثة الخروج، حيث لم تُكتشف الدلائل الأثرية التي تُثبت حدوث الأمر – حتى الآن – وهذا من الأمور المعتادة في علم الآثار بشكل عام، فلا يمكن الجزم بالنفي أو الإثبات ها هنا من الناحية الأثرية، إنما فقط انتظار ما سيكشف عنه المستقبل وما يخبئه باطن الأرض لنا من مفاجآت قد يغير بعضها – رغم صغره – فهمنا للتاريخ ولماضينا كذلك.
هل كان رمسيس الثاني فرعون الخروج؟
حتى نستنير في رحلتنا بآراء المتخصصين وأصحاب الكفاءة العلمية، فقد تحدثت «ساسة بوست» مع الباحث في علم المصريات والمؤرخ والكاتب الدكتور محمد رأفت عباس، وهو متخصص في عصر الرعامسة وصاحب ثلاثة كتب مهمة عن تاريخ العسكرية المصرية القديمة عصر الدولة الحديثة وعصر الإمبراطورية، كما أنه صاحب أول معجم باللغة العربية عن التاريخ الحربي لمصر القديمة منذ فجر التاريخ، وحتى الدولة الحديثة، والمعجم قد نشر حديثًا هذا العام.
وأكد – محمد رأفت عباس – أن اتهام فرعون مصر الشهير الملك رمسيس الثاني بكونه فرعون الخروج يعد من القضايا التاريخية المثيرة للجدل، ومرجع هذا بشكل دائم هو -بحسب رأيه- الدعاية الصهيونية التي تقف وراء هذا الأمر في وسائل الإعلام العالمية، بل وفي الأعمال الفنية الشهيرة كذلك التي تقدم في السينما العالمية، والتي تتضمن دائمًا تشويهًا لرمسيس الثاني الذي يعد علمًا خالدًا من أعلام تاريخ وحضارة مصر القديمة، بحسبه.
فما الهدف من وراء تشويه الملك رمسيس الثاني؟ يجيب الباحث بأن الهدف يتمثل في أن رمسيس الثاني يعد – بما لا يدع مجالًا للشك – رمزًا حقيقيًا للحضارة المصرية القديمة، فهو يعد صاحب أطول فترة حكم في تاريخ مصر القديمة، وهذا إذا قمنا باستثناء الملك ببي الثاني من الأسرة السادسة، وقد بلغت فترة حكمه نحو 67 عامًا، ولا توجد منطقة أثرية في مصر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب إلا وتوجد فيها آثار تحمل اسم رمسيس الثاني.
كما أن آثاره العظيمة والخالدة قد تجاوزت حدود مصر إلى مناطق فلسطين ولبنان وسوريا وشمال السودان، والتي كشف فيها عن الكثير من لوحاته وبقايا المعابد والمنشآت التي أقامها في أنحاء إمبراطوريته الواسعة، والتي تتحدث جميعها عن عظمة أمجاده التاريخية الكبرى، خاصة في ميدان الحرب والتي كانت خير معبر عن توسع مصر وقوتها في فترة حكمه، فهو المحارب الذي خاض أكبر وأشهر معارك التاريخ القديم، فكان كما تقول عالمة المصريات الفرنسية القديرة كريستيان ديروش نوبلكور أعظم ملوك عصره بكل جدارة، واستحق أن يكون ملك الملوك في تاريخ الشرق الأدنى القديم دون منازع، ومن ثم فقد تحول رمسيس الثاني إلى هدف مباشر للتشويه والأحقاد وبث سموم الكراهية من جانب أعداء مصر التاريخيين، بحسب رأي الباحث.
وإذا تناولنا قضية الخروج -يكمل عباس حديثه- بوجهة نظر متعمقة، فسوف نجد أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل أثري أو تاريخي بين الآثار المصرية أو بين الآثار المعاصرة في حضارات منطقة الشرق الأدنى القديم يشير على الإطلاق إلى أن الملك رمسيس الثاني هو فرعون الخروج أو حتى إلى أي ملك آخر من ملوك مصر القديمة، بل إن كل هذه الآراء التاريخية وقف وراءها مؤرخين ذوي النزعة الصهيونية في تفسير الأحداث التاريخية، ولعل خير دليل يثبت عدم صحة هذه الآراء التي ترى في ملك مصر أنه كان فرعون الخروج هو مومياء الملك رمسيس الثاني نفسه.
كانت مومياء الملك «رمسيس الثاني» هي أول مومياء ملكية يتم فحصها بأحدث الأجهزة العلمية والطبية على أعلى مستوى، وبعد مفاوضات مطولة تمت في القاهرة بين السلطات المصرية والفرنسية عام 1976م، تقرر سفر مومياء رمسيس الثاني إلى العاصمة الفرنسية باريس، وذلك لفحصها ومعالجتها من الفطريات التي بدأت تظهر داخل التجويف الباطني. وقبل وصول المومياء إلى باريس، حيث أعدت الحكومة الفرنسية للمومياء معملًا بمتحف الإنسان بباريس، وذلك بمساعدة معمل الأنثروبولوجيا بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس.
وقد تكون حينها فريق علمي برئاسة البروفسير «بالو»، وتم وضع برنامج مطول لأخذ عينات متعددة من هذه المومياء، وبالفعل سافرت المومياء إلى فرنسا في العام 1976م، ومكثت هناك في معملها العام 1977، وخلال هذه المدة التي تقرب من سبعة أشهر أجريت عليها عملية فحص شاملة، وتولت العالمة كوليت روبيه عملية التنسيق العلمي بين كل الباحثين والمعامل والمراكز والمعاهد العلمية التي شاركت في عملية الفحص.
وكان فريق الفحص يتكون من 105 باحثًا و20 مؤسسة ومركزًا ومعهدًا علميًّا، وأسفرت عملية الفحص هذه عن 45 دراسة متعددة التخصصات، صدر عنها في باريس مؤلفًا عام 1985 تحت عنوان: «La Momie de Ramses» «مومياء رمسيس الثاني»، وأظهرت هذه الدراسات الكثير من المعلومات عن حالة المومياء الصحية قبل وبعد الوفاة، وأظهرت كذلك بقايا بعض المواد التي استخدمت في التحنيط.
وقد أثبتت التجارب والفحوصات التي تمت بأحدث الأجهزة طوال فترة علاج المومياء بأن الملك لم يمت غرقًا أو أنه تعرض لحدث طارئ أودى بحياته في هذه السن المتقدمة، وهو الأمر الذي يخالف بشكل تام ما ورد عن موت فرعون الخروج غرقًا في روايات التوراة والقرآن، حين كان يقوم بمطاردة بني إسرائيل في طريق هروبهم من مصر.
وقد رأى بعض المؤرخين أن العابيرو الذين قد ورد ذكرهم في النصوص المصرية ربما يكون المقصود بهم العبرانيين الذين ورد ذكرهم في التوراة أي الشعب الإسرائيلي القديم، وقد ورد ذكرهم خلال عهد الملك رمسيس الثاني من خلال بردية ليدن 349.
وقد جاء فيها أن الملك قد استخدم العابيرو في جر الأحجار اللازمة لبناء صرح أحد معابده، فرأى بعض المؤرخين سابقًا من خلال هذا النص أن الملك رمسيس الثاني ربما يكون فرعون التسخير أي الذي سخر العبرانيين في بناء مدينتي بر رعمسيس وبيتوم، طبقًا لما ورد في التوراة في سفر الخروج، ومع مرور الوقت وتعدد الدراسات تراجع الغالبية العظمى من المؤرخين عن هذا الافتراض، إذ ورد من خلال بردية هاريس الكبرى بالمتحف البريطاني من عهد الملك رمسيس الثالث ثاني ملوك الأسرة العشرين أن الملك رمسيس الثالث قد أهدى عددًا من العابيرو إلى معبد الإله رع إلى جانب أعداد أخرى من طوائف الأسرى.
وفي إحدى لوحات الملك رمسيس الرابع ثالث ملوك الأسرة العشرين التي دونت على صخور وادي الحمامات ورد أن هذا الملك قد استخدم 800 من العابيرو ضمن بعثته التي أرسلها إلى محاجر الشست في وادي الحمامات بالصحراء الشرقية لقطع الأحجار اللازمة لتشييد آثاره، ومن ثم فقد أصبح من غير المرجح افتراض أن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج مع استحالة افتراض أن العابيرو الذين ورد ذكرهم في النصوص المصرية هم أنفسهم العبرانيين أو الشعب الإسرائيلي القديم.
لقد حاول الكثير من المشاهير والملوك والباحثين عن الشهرة والمال وحتى الأكاديمين، أن يجدوا أثر الخروج، وحتى الآن، لم يتمكن أحد من الوصول إلى هذا الدرب الذي سلكه اليهود في الصحراء – حسب الرواية التوراتية – إلا أن الإجابة عن السؤال فيما يخص رمسيس الثاني قد حسمت بالفعل، فهو لم يكن فرعون الخروج، ربما كان غيره، لكنه ليس هو، ومن يدري لعل المستقبل يكشف لنا ما لا نعرفه الآن ويغير فهمنا للأشياء من حولنا، ففي علم المصريات لا شيء مؤكد سوى ضرورة البحث باستمرار.