محمد جميح
شعور بالسكينة التامة والهدوء العميق، عندما تنغرس في كثيب صغير من الكثبان المتقدمة للربع الخالي، في مأرب، بلاد السبئيين، حيث شلالات الرمال تملأ سكون الليل، وجنبات السماء تتثعب ظلاماً بارداً يملأ الروح لذة وأنساً.
يكون الظلام أليفاً والصحراء ودودة، عندما يرشها الليل برذاذ من الظلمة الناعمة.
على مقربة مني الآن قطيع أغنام تلوك ما تيسّر من العشب، وتذكرني بأيامي الأولى، صبياً راعياً في جنبات الوديان.
على مسافة غير بعيدة مجموعة من الكلاب الشاردة، وعدد من الجنادب تنبعث أصواتها في تناغم عجيب من أشجار الأراك القريبة، ودويبات رملية تتسلق ساقيَّ المغروسين وسط الرمل كأوتاد خيمة الأجداد.
ضوضاء عدد من الأطفال الذين يتوضؤن بالرمال، ويعفرون رؤوسهم بالتراب، في منظر أكثر أناقة من مناظر سكان "لا ديفونس".
هنا الطبيعة البدوية تلتف بعباءة ليلى العامرية، وهذا مجنون عامر يخرج من بين الخيام، وعلى الكثيب المقابل بدا عنترة العبسي يهدي عبلة قارورة "شانيل" مع غصن من نبتة "الشيح"، في لحظة رومانسية لم يقطعها إلا صهيل حصان امرئ القيس عائداً من رحلة صيد.
هاهم سلفنا الصالح يحفّون بي، ليقولوا إن الكتابة بلون الرمل، وبالظلام المتثعب من جبين السماء لها طعم آخر.
إنني في هذه اللحظة بدوي غجري، لا علاقة له بالشانزليزيه ولا اكسفورد ستريت، وتلك العمارات الشاهقة التي تخنق الروح.
عندما يشرب الإنسان الرمل-طفلاً-فإن البادية تظل تسري في عروقه حتى يسكر بالرمال، ويصبح أسيراً لأصداء الغيلان التي تنسرب من مغارات الجبال البعيدة.
البادية هي من علمني الشعر وناولني الحرف الأول، ولذا تخرج كتاباتي شعثاء كمحبوبة حسان، فرعاء كصاحبة الأعشى، مجنونة ليس فيها فواصل ولا نقاط ولا أي من علامات الترقيم التي تخص أساليب الكتابة الحديثة.
ترى: لماذا نمتلئ بالشعر عندما نأتي إلى هذه "الديرة"؟!
هل لأنها مراتع الصبا، أو لأنها تذكرنا بجدنا الأكبر امرئ القيس بن حجر الكندي؟!
أياً ما تكن الإجابة، فإنني أتعصب للرمل ضد الأسمنت، ولخيام بني عامر ضد ناطحات السحاب، ولمأرب ضد الحي اللاتيني.
والآن، يؤذن المؤذن لصلاة العشاء، يدخل الأذان في عروقي شلالاً من نغم قدسي، وهنا تنتهي الكلمات لتبدأ الصلاة.
وعندما تصلي على الرمل تحس أنك في قلب الكون، وأن محمداً يؤم الصلاة، وأنك فعلاً في حضرة الله.