فقاعسة صنعاء!

فقاعسة صنعاء!
بلال الطيب
  • 29 سبتمبر ,2020 02:54 ص

 

لم تكن الـ 14 عامًا الأخيرة من حُكم الإمام الطاغية يحيى حميد الدين هادئة عليه أو مُستقرة؛ بل تخللتها أحداثٌ عظام، وتحولات حاسمة. وبهزيمة جيشه الحافي أمام القوات السعودية بدأ العد التنازلي لنهايته 1934م؛ وهي الكارثة التي أدت لارتخاء قبضته، وتَبَدُد هيبته، وضُعف شعبيته، ليبدأ الأحرار «الدرادعة» - كما كان يُسميهم، وهي تسمية خاصة بطائفة من اليهود - يُفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، وهو ما حدث بعد مخاضات عسيرة يطول شرحها، سَنُوجزها اختزالًا في السطور التالية.

     

كانت حرب الانسحاب المُذلة تلك، وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بداية ذات العام مع الإنجليز، كانتا - كما ذهب عدد من المُؤرخين - حدًا فاصلًا بين مرحلتين زمنيتين، وهذا لا يعني قطعًا أنَّ حركة المُعارضة اليمنية كانت مُتوقفة قبل ذلك التاريخ؛ فقد ظهرت أصوات فردية محدودة، اكتفت بتقديم النصح شعرًا، ونثرًا، ولم يعرها الإمام الطاغية أي اهتمام.

     

كما وُجِدت - وهو الأهم - حركات فلاحية مسلحة في عدد من المناطق، وتصدرت في لحظة مُقاومة المشهد، وتصدت للزحوفات الإمامية، وأصلتها كأس المنون، واستمرت إحداها - أقصد هنا مُقاومة قبلية الزرانيق - حتى العام 1930م، وهي - أي تلك الحركات - على كثرتها لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر.

     

ومن هذا المُنطلق، ومن أجل إزالة الالتباس الذي عمل البعض على تكريسه، سَنُسمي هذه الفترة بمرحلة المُعارضة الفلاحية غير المُنظمة، وفترة ما بعد الحرب الإمامية - السعودية سنسميها بمرحلة المُعارضة النُخبوية المُنظمة. استلهامًا مما ذكره الباحث عبدالعزيز قائد المسعودي ذات قراءة.

     

أحدثت هزيمة القوات الإمامية أمام القوات السعودية هزة عنيفة في حياة اليمنيين، وكشفت - كما أفاد القاضي محمد محمود الزبيري - عن مساوئ الحُكم الإمامي، وأزاحت الستار عن حقيقة موقف الشعب منه، وانطلقت الصحف العربية تُهاجم الإمام يحيى وسياسته، وتُسلط على حُكمه أضواء النقد اللاذع.

     

والأكثر أهمية أنَّها - أي تلك الحرب - كانت العامل الأكثر حسمًا في بلورة وعي الأحرار بقضيتهم الوطنية، وصاروا - تبعًا لذلك - أكثر إيمانًا بعدالتها، وأكثر رغبةً في تغيير حال بلدهم إلى الأفضل، وأصبح بعضهم أكثر جدية في تخليص اليمن من براثن حكم الإمامة الكهنوتية وإلى الأبد.

     

جاءت بعد ذلك حادثة استفراد الإمام يحيى بالحكم، وتوزيعه ألوية اليمن كإقطاعيات بين أولاده 1938م؛ وأخذه البيعة لولده أحمد ليكون وليًا للعهد، وإمامًا من بعده؛ وهو الأمر الذي أحدث شرخًا بين أسرته وباقي الأسر العلوية الطامحة، وبمعنى أصح وسع ذلك الشرخ أكثر فأكثر.

     

وضاعف - في المُقابل - الكراهية في نُفوس الرعايا المُتذمرين من ذلك الوضع أصلًا؛ خاصة وأنَّ أولئك الأبناء - سيوف الإسلام كما هي تسميتهم الشائعة، أو السيوف الأثرية حد توصيف شاعر فلسطيني - كانوا أسوأ من أسلافهم، وروي عن والدهم حينها قوله: «لقد كرهني الناس من حين كبروا عيالي»!

     

مجاعة عامي 1942 ـ 1943م تُضاف هي الأخرى إلى جُملة الأسباب التي أدت لارتفاع وتيرة مُناهضة حكم الإمام يحيى وبنيه، وكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ومثلت نقطة تحول فارقة في انتهاج أبطال ذلك النضال لسياسة المُصادمة بدلًا من سياسة المُهادنة، والتمرد على قداسة الإمام، وحقه الإلهي.

      

وهكذا، وبعد استراحة مُحارب - لم ينتصف العام التالي إلا وأصواتهم القوية تقض مضاجع الطغيان؛ الأمر أصابه بالجنون، فأخذ يفتش عن بقايا منشور هنا، وعن رسالة مُحفزة هناك، وأتبع ذلك بأنْ زج بعشرات الأحرار في سُجونه المُتباعدة.

     

«هيئة النضال - خلية صنعاء»، ثم «حزب الأحرار الدستوريين»، و«جمعية الإصلاح» في إب، أشهر ثلاثة كيانات تحررية جامعة تصدرت خلال تلك الحقبة المشهد، وانضوى تحت لوائها مئات المُستنيرين - من علماء، وقضاة، وأدباء، وتجار، وعسكريين، وبعض مشايخ القبائل، وعدد كبير من الشباب المُثقف.

     

أطلق الإماميون على هؤلاء الشباب المُتحمس تسمية «البزغة» انتقاصًا منهم، ودون إدراك أنَّ نهايتهم ستكون بعد سنوات معدودة على أيدي هؤلاء، وأنَّ بعد البزغة نُضوج.

     

وقبل التعمق في هذه الجزئية أكثر، وجب التذكير أنَّ الأستاذ أحمد حسين المروني سبق ونفى للباحث سيد مصطفى سالم عن وجود كيان تحرري باسم «هيئة النضال»؛ على اعتبار أنَّ البلد حينها لم تكن مهيأة لوجود جمعيات سرية أو تنظيمات بالمفهوم المُعاصر للتجمعات السياسية، وأنَّ المناشط السائدة في ذلك الوقت لم تتجاوز التجمعات المحدودة لبعض المُستنيرين في مجالس القات، وغيرها، وأنَّ نقاشاتهم تجاوزت - قبل أن يُفتضح أمرهم - الفكر، والأدب، وصولًا إلى السياسة، وتداول بعض المنشورات الناقدة.

     

بصفته عضوًا في تلك الخلية، تحدث القاضي عبدالله الشماحي عن تلك المرحلة باستفاضة بالغة فيها كثير من المُبالغة، قائلًا أنَّ صديقه المناضل أحمد بن أحمد المطاع دعا خلال تلك الفترة إلى إيجاد حياة مُتطورة - مُتحررة من الإمامة، والحكم المُطلق، وفي إطار الروح الإسلامية الصحيحة، وأنَّه - أي المطاع - قام بداية العام 1935م بجوله تعرفية تعارفية في عدد من المناطق اليمنية لذات الغرض، ليُؤسس في العام التالي ومعه عدد من الأحرار المُستنيرين ما أطلق عليه بـ «هيئة النضال».

     

المُناضل العزي صالح السنيدار تحدث عن تلك المرحلة بإسهاب ماتع؛ ولم يشر إلى وجود كيان تحرري باسم «هيئة النضال». كان هو الآخر من أصدقاء المناضل أحمد المطاع المُقربين، وشاركه وعدد من رفقاء النضال محنة الحبس في سجن القلعة مايو 1936م، وذلك بعد عامين وأكثر من بدء لقاءتهم السرية في منزليهما، وفي مسجد الجديد، وقال في مُذكراته أنَّ الإمام يحيى أسماهم بـ «الفقاعسة» - أي المُشاغبين - واتهمهم بالإلحاد، واختصار القرآن. تدخل حينها الوسطاء؛ فأفرج عنهم الطاغية بعد أقل من عام.

     

وأضاف المناضل السنيدار أنَّ صحيفة «الشورى» المصرية تضامنت معهم أثناء محنتهم تلك بعدة مقالات، منها مقال بعنوان «أحمد المطاع وحزبه يدعون إلى الإصلاح»، ومن هذا المُنطلق، ولإزالة اللبس القائم؛ سنطلق على هذه المجموعة اسم «خلية صنعاء»، بدلًا من «هيئة النضال».

     

كان المناضل أحمد المطاع - كما أفاد الشماحي - مُقتنعًا أنَّ انتعاش اليمن، وارتقاءه إلى المستوى اللائق به، وماضيه الحضاري بين الأمم مُتوقف على تخليصه من حكم الإمام، والإمامة، ومن عبث العابثين، والمُستغلين، والمُتعالين بالأنساب.

     

وحين حانت لحظة ضرب عنق المُناضل المطاع بعد فشل الثورة الدستورية 1948م، وكان المُطهر بن الإمام يحيي، وابن أخيه محمد البدر من جملة المُتشفين، صرخ في وجهيما - كما أفاد المُؤرخ إسماعيل الأكوع - قائلًا: «لن يُرجى لليمن الخير ما دامت هذه الشجرة الملعونة تحكم اليمن»، ونُقل عنه أيضًا قوله: «نُكبت اليمن بثلاثة أحرف "س - ي - د، فهل هناك أوجز من هكذا توصيف؟

     

كان أعضاء الكيانات الثلاث السابق ذكرها من كل اليمن، ومن مُختلف شرائحه. وعلى الرغم من عدم تجانسهم اجتماعيًا، إلا أنَّهم شكلوا تحالف مزدوج مُتدرج في مطالبه، منهم من دعا صراحة - كما أفاد الشماحي - إلى التغيير الجذري للنظام، ومنهم من دعا - وهم الأكثرية - إلى الإصلاح الديني، والسياسي، على اعتبار أنَّ الظروف لم تكن حينها مهيأة لتجاوز ذلك الإطار المطلبي.

     

اختلط في أدبيات أولئك الأحرار - حد تعبير الدكتور عبدالعزيز صالح المقالح - القديم بالجديد، والسلفي بالمُعاصر، والأكثر أهمية أنَّ شعارهم الجامع دعا إلى السيادة الشعبية، الوحدة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، وأنَّ تحركاتهم العفوية تحولت مع مرور الوقت إلى أفعال مُنظمة، وبمعنى أدق شبه مُنظمة، وكان لها ما بعدها.

 

*المقال عبارة عن فقرة من كتاب الباحث الصادر حديثا عن مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام بعنوان "جازم الحروي.. صانع تحول"، والذي يتناول دور هذه الشخصية الوطنية في دعم أحرار الثورة.

اقرأ ايضاً

 "أسبيدس" بقيادة إيطالية

"أسبيدس" بقيادة إيطالية

في مايو 2017م كنت في زيارة رسمية إلى ألمانيا، كانت هي الثانية لأوروبا بعد سويسرا، وذلك أثناء رئاستي للحكومة اليمنية، التقيت وزملائي في الوفد -وزير الخارجية عبدالملك المخلافي، ووزي…

 غزة.. القضية العادلة والاستغلال الحوثي الإيراني

غزة.. القضية العادلة والاستغلال الحوثي الإيراني

‏غزة.. القضية العادلة والاستغلال الحوثي الإيراني همدان العليي ‎@hamdan_alaly أعطوني فائدة واحدة حصل عليها أبناء غزة مما يفعله الحوثي في البحر الأحمر أو عبر مفرقعاته التي يطلقها ب…

 الدكتور أحمد عبيد بن دغر .. قالوها قوية وطنية يمنية

الدكتور أحمد عبيد بن دغر .. قالوها قوية وطنية يمنية

قالوها قوية وطنية يمنية 7يناير 2024تحية لهؤلاء المناضلون كبار القوم وزعماء الإقليم الشرق، قادة سياسيون واجتماعيون مثقفون وإعلاميون، رجالًا ونساءً فقد قالوا كلمتهم في أجواء ملبدة ب…